مركز ميسان العالمي للحوار والتنمية الثقافية، هيئة مستقلة غير حكومية، ترى في الحوار الحر والبناء بين الثقافات والحضارات، أسلم طريق لبناء مجتمعنا البشري، وتعتقد أن السلام بين الشعوب على كوكبنا، ونبذ العنصرية والأفكار والممارسات التي تدعو إلى الكراهية والاستعلاء والتطرف، هي ثقافة القرن الحادي والعشرين بأمتياز
    lمريوم
    البحر ينادي على الكائنات
    05/09/2010

    قصة قصيرة
    *ـــــــ*

    جمعة اللامي
     مَرْيُوم


    قُبيل غروب الشمس بقليل، تأتي مريوم من حيث لا نعرف، الى حيث يعرف ناطور البرج المشرف على آخر لسان صخري يندفع باتجاه بحر العرب والمحيط الهندي: "محمد الباكستاني"، وقاطنو شقق هذه البناية.
     تقف البنت بشعرها الاشعت ، قبالة غرفة الناطور، وتبدأ بإطلاق نداءات مبهمة. فتظهر، اولاً، رشيدة خاتون.

    لم تتخلف رشيدة خاتون، أو "الخاتون” عن مَرْيَم ، كما هو اسمها ، في موعدها المسائي. ما ان تبدأ البنت بالمناداة بتلك الأصوات المبهمة حتى تظهر "الخاتون” جرياً نحوها، ثم تلتصق بساقها اليمنى، وتموء.

    كانت الخاتون حبلى ذات يوم، لكنها لبت نداء صديقتها الصغيرة. وكان برفقتها طائر الببغاء الافريقي حمودي، وهو ما اثار عاطفة ناطور العمارة الذي قال للرجل الذي لا وصف له سوى انه رجل متشرد:
    ـ "الخاتون حُرْمَهْ شَريفَهْ".
     قال الباكستاني:
    ـ أقسم بمحمد وعيسى وموسى ان مريوم هي التي سمت محمدا "حمودي" !.

    وفي مساء آخر، كانت الخاتون تتقدم نحو مريوم منهكة.
    فقال الناطور:
    ـ "رشيدة ولدت ثلاث بزّوْنات".
     وكان حمودي يرافقها أيضاً.

    وفي مجلس المساء المعتاد، يتدارس الناطور والحلاق الهندي ورجل آخر، لا وصف له سوى انه متشرد، في شأن الطفلة مريم وقططها وطيورها. فلقد كبرت الجراء الثلاثة، واستضافت قططا وجراءً أخرى. واغرى حمودي سرباً من الغربان الهندية الحذرة جدا في علاقتها مع الطير والبشر، لتلتحق بطيور مريوم وقططها.

    قال الباكستاني: مريوم مبروكة.
    وايده في ذلك ساكنو المبنى كلهم : "نعم، البنت مبروكة”، بعدما تدخلت لفضّ عراك بين أفعى ظهرت بغتة عند الحديقة المجاورة للعمارة وحمودي . وتمكنت من ربط حبل ودّ بين الأفعى والببغاء الابيض والقطة الأم.
    جاءت الحية ، مسترخية جدا ، والتفت على الساق اليمنة لمريم ، حتى صارت مثل حجل متعدد الحلقات . حبسنا انفاسنا . وحده الحلاق اتجه نحو الشمس الغاربة ، واخذ يتلو وِرْدَاً باللغة الاوردية
    وعندما توقف عن الانشاد ، انسلت الحية نحو طاسة اللّبَن التي كانت امام مريوم ، واخذت تتقلب ظهرا على بطن في السائل الرائب .
     وهنا سمعنا مريم تقول للمرة الاولى في حياتها : " ما ... ما " .

    هذا هو المشهد الأثير الى نفسي، الذي لا اتخلف عن حضوره يومياً، عند قاع البرج الذي اقطنه. هو يواجه البحر، ولا يحميه من ظهره إلا رمال ممتدة طالما كان بصرك قادرا على عدم الرمش، وأنت تديم النظر في عمق البحر، أو في عمق الرمل.

    ـ "من هناك”.
     واشار الحلاق الى عمق البحر.
     وقال: "مريوم.. أتت من هناك”.
     ثم قال ذات يوم:
    ـ  "مِنْ هناك”.
     واشار الى عمق الرمل.
    طفلة في العاشرة من عمرها، شعثاء شعر الرأس، بملابس خلقة، لا تجيد سوى اطلاق نداءات مبهمة وغامضة ، لأصدقائها من الطيور والقطط والحياتوالعناكب والسناجب والاسماك .

    بعد ان ذهب مساء احد الأيام، تبعتها حتى الساحل، ثم اقتربت منها وهي تدخل مياه البحر، لأرى فتاة شابة في الثامنة عشرة من عمرها، تطير بجناحي ببغاء إفريقي ابيض، الى حيث لا اعلم، وخلفها اسراب من الطيور، وقطعان من القطط والأفاعي، ومئات اسماك القرش والحيتان تتقافز حولها .

     ثم خيل الي اني كنت اشاهد الرجل الذي لا وصف له سوى انه الرجل المتشرد ، يطلع من بين الامواج المتلاطمة .
     وحين ادمت نظري فيه ، وجدت وجهه يشبه وجهي تماما .

    * ـــــــــــــ *
    من مجلد : " اليِشِنِيّون "


    ***
    ***

     

    محمود الريماوي
    "مريوم" جمعة اللامي: البحر ينادي الكائنات
    أتضرع الى المولى أن أفلح بكتابة شيء ذي بال عن قصة "مريوم"  المنشورة في "كيكا" ابتداء من الاثنين 30 آب أغسطس..غشت، للقاص الروائي المبدع جمعة اللامي، ذلك أن الكتابة تحت ضغط التأثر والانبهار، إذ تطلق المخيلة وتثير العاطفة، فإنها قد  تلجم العقل وتشُل آلة الكتابة لدى صاحبها.
    ترصد القصة جانباً من يوميات قاطني بناية في بلد خليجي.البناية تقع على البحر وتدير ظهرها للرمل. الحياة المألوفة: السعي للعيش واللاعلاقات بين القاطنين، تستتر وتغيم  لفرط بداهتنها وربما رتابتها، وتطغى عِوضَ ذلك حياة مسحورة على فضاء البناية مع تقدم فتاة شعثاء الى مدخل البناية لتتوقف هناك وتطلق أصواتا مبهمة. ناطور البناية الباكستاني المنفرد في عزلته والمنقطع عن حياته المعهودة في موطنه، يهش ويبش لتلك الفتاة بترحاب غريبٍ لغريبة. ولا يلبث أن يراها وقد تبين لها اسماً وهو مريم او مريوم للتحبب، "مبروكة" تباركها الملائكة والأولياء الصالحون رغم أن لغة تواصلية لم تنشأ بينهما. إنهما يتواصلان بالحدس والغريزة ، وبالانتماء الى عالم فوق واقعي. حارس البناية يرى في الزائرة الغريبة، ما يحرره من معهود يومياته ومن ألفة الوجوه الداخلة والخارجة. وحين تهل سيدة في البناية هي السيدة خاتون المفترض أنها تركية، وتشرع في "التحاور" مع الزائرة الغريبة، فإن الحارس شانه شأن الفتاة "الغامضة " يأنس بهذا الاجتماع خاصة حين تظهر السيدة التركية بغير السمت المعهود للسكان، إذ تحوز ببغاء إفريقياً أبيض يرافقها في الهبوط الى مدخل البناية...ويأخذ الببغاء في التواصل مع جراء وقطط تأتي بها الزائرة المجهولة، ثم مع حية أفعى. ويعتقد الحارس الناطور ان مريم هي من اطلقت على الببغاء اسم حمودي.
    المشهد يجتذب حلاقاً هندياً، وفي الخلفية(غير البعيدة مكانياً) ثمة شخص من قاطني البناية هو الراوي، لا هوية ظاهرة له ولا تعريف به غير أنه "مشرد"، لا يملك سوى أن يراقب مشدوهاً ما يجري، بعدما استشعر أن مايدور من ائتلاف الكائنات، يخاطب موضعاً ما من روحه أو ذاكرته فيتلبث واقفاً.
    الائتلاف يصّاعد بين الكائنات حين تتقلب أفعى في طبق من لبن زبادي أمام الجميع : الحارس والحلاق والسيدة خاتون والراوي والجراء والقطط والببغاء، ولا تتوانى الفتاة الزائرة عن الجهر بلغة مفهومة لأول مرة، بأن تلك الحية هي أمها. ثم تأخذ الحية في الالتفاف على ساق الفتاة دون وجل منها. لم لا؟ ما دام المشهد يصور تلك المصادفة "الحتمية" في اجتماع كائنات في وقت  قد يكون فجر الخليقة قبل تقسيم الأنواع، أو إبان التباعد القسري المتطاول بين الكائنات وهو ما يشهده زماننا وتشهد عليه مدننا، فيتم بقوة التخييل وبكسر الحدود بين ما هو تخيلي وواقعي، العودة الى ذلك الزمن الأول.
    الراوي الصامت الذي لا تفوته شاردة أو واردة، يبدو أكثر الأطراف إنشغالاً بما يجري رغم أنه الأقل مشاركة فيه، فيراقب الفتاة الزائرة ويتقصى سِرّها من حارس البناية ولا يملك هذا الأخير سوى أن يشير مرة الى أنها تأتي من جهة البحر، وفي مرة ثانية يصرح أنها تنبثق من متاهة الرمل. فيتعقبها الراوي في أوبتها فإذا بها تقصد البحر عائدة، وهناك تتمرأى الفتاة الشعثاء صبية ممشوقة في الثامنة عشرة، تطير صوب لجج الماء بجناحي عظيمين لببغاء تتبعها الجراء والقطط ،ويتأهب لاستقبالها في عباب الموج كائن يمتلك القسمات ذاتها للراوي  فإذا هو قرينه. بهذا تحولت الكائنات الى مخلوقات برمائية عائدة الى مرحلة ما قبل انفلاق الكوكب وتدفق المياه عليه،وحيث كان الكوكب الأرضي موحداً والكائنات فيه مؤهلة عضوياً بغير ما فروق نوعية للاجتماع ما بينها وخوض مغامرة الحياة بامتلاء.
    البناية العادية الكائنة على الشاطىء، تتحول تحت ضغط الحياة المعلبة والمستلبة الى برج بابل، تختلط فيها الألسنة أو يصيبها بكم، وعلى مدخل البناية بدلاً من اصطفاف مركبات لامعة ومخازن براقة والصمت الرائن في القيظ، تجتمع حيوانات أليفة تنبثق لا من رمل أو من ماء، بل من مخيلات مكبوتة لقاطنين، مقيمين في الماضي وفي مواطنهم وفي التراث الروحي والميثولوجي لجماعاتهم الأولى ولشخوصهم المفردة،  فيما هم يجتمعون في مكان آخر وزمن راهن تنشأ فيه، أوهى العلاقات بين بعضهم بعضاً كما مع المكان المؤقت.
    إدارة الظهر لكثبان الرمل، والعزوف عن حياة لا جاذب روحياً نحوها، ثم الوثوب للانغمار في لجج البحر، هي بعض علامات تحرر هذه الكائنات من شروط حياتها الضنكى. ليس ما تقدم تفسيرا واقعياً يشد قصة "مريوم" الى بيئة بعينها، لكنها محاولة لقراءة ما تبثه المؤشرات المكانية والزمانية لوقائع القصة. مع الادراك التام أن  دلالات القصة وككل منجز إبداعي باهر، تفيض عن الالتصاق بواقع بعينه والترجمة له. وهو حال قصة جمعة اللامي "مريوم"  ولعل قارئها يستعيد في أثناء القراءة بعضاً من أجواء بورخيس في قصص له عن بابل وكذلك ماركيز في قصته "أجمل غريق من العالم" وربما خطرت ببله كليلة ودمنة وأساطير هندية، غير أننا هنا على شواطىء بحر العرب حيث يتم اجتماع عرب وأتراك وهنود وباكستانيون، والى محمد بتسميته حمودي، وتسمية القطط "بزونات" كما في لهجات عراقية وخليجية، ويتم التحبب الى مريم بتسميتها مريوم، وقد يكون من الخطل التحديق في دلالة اسمها الممنوح للبطلة الفتاة الشعثاء، أو البحث عن مدلول ديني له إذ تتسمى به إناث للمسلمين والمسيحيين على السواء، ويرتبط  بالمخيلة العامة بالصفاء والبراءة والعذرية والتخفف من الشروط البشرية.
    وفي نهاية الأمر فإن جمعة اللامي هو من الورثة النجباء لبابل، ولتراث عراقي مديد ومتشعب، وهو منشىء مدن سحرية مثل "اليشن"، منذ اواخر ستينيات القرن الماضي، حتى قبل أن يطير صيت بورخيس، دون التقليل بالطبع من فرادة  صنيع الأرجنتيتي المتبصر. 
    *كاتب من الاردن*
    mdrimawi@yahoo.com

     

     

    © 2009 - 2013 Sharjahmisan.com All rights reserved
    Designed by Sillat Media & Managed by Ilykit