مركز ميسان العالمي للحوار والتنمية الثقافية، هيئة مستقلة غير حكومية، ترى في الحوار الحر والبناء بين الثقافات والحضارات، أسلم طريق لبناء مجتمعنا البشري، وتعتقد أن السلام بين الشعوب على كوكبنا، ونبذ العنصرية والأفكار والممارسات التي تدعو إلى الكراهية والاستعلاء والتطرف، هي ثقافة القرن الحادي والعشرين بأمتياز
    الجماليات المعاصرة:
    أداء إشهاري لا يكترث بالتشكيك
    30/09/2009

     تبقى ثمة مأثرة في الفن عصية على التفسير: خلوده. وجود دائم، متفرد، يعتري العمل الفني، ما يجعله خارج أي زمن يمضي بأشيائه نحو الأفول. ما الذي يجعل من لوحة أو منحوتة شاخصة رغم مئات من السنين وتحتفظ بذات الدهشة، بذات القدر من الاهتمام بالبحث عن لحظة تكشف فيها عن سرها وغوايتها؟ مفعمة بفضول السؤال عنها، لماذا استطاعت أن تبقي حضورها حتى اللحظة دون أن يلحقها النسيان رغم أن لكل عصر حساسيته الجمالية وميله إلى التأثر بطريقة تختلف عن سابقه؟
    لا شك في أن كل عمل فني، أصيل، يتمثل لحظة جمالية نادرة ليست مشاعة للجميع. هي ذاتها الموهبة التي تتعاطى البقاء في الذروة. مؤتلفة من حس شديد الخصوصية وخبرة داخلية ورغبة في التعبير وتجاوز عن ذوق معتاد، لتشكل جميعا تلك الميزة الأكثر بهاء في الفن، حرية روح تتمتع بالنظر إلى أبعد مسافة ممكنة حتى وان كانت غير مرئية.

    لذا لا تصدقوا تماما علماء الجمال ومؤرخي الفن ولا حتى نقاده حينما يقترحون تصورات تدعي إجابة أخيرة بشأن كهذا. فلطالما كان هؤلاء يفكرون بنظرياتهم حينما كان الفنانون يعملون في مشاغلهم غير آبهين بمثل هذه النظريات. فالفرق كامن في كون ما يقولونه لا يعدو سوى بعض تأملات تتخذ العمل الفني مجالا للمقارنة بالأفكار، فيما الفن لا يماثل سوى نفسه ولا يقارن إلا بذاته. مجال يطالب حساسيتنا بالتفاوض على هاجس قائم على إعادة النظر، على عدم اليقين بأن ما تم التعرف إليه كان على درجة أخيرة من الوثوق. كونه يعيش اعادات مختلفة من حالات التوصيف، والقبول بإجراء فعل مشاهدة مغاير كي يعيد توقه للابتكار، فهو من تلك المجالات التي لا يمكن الانتهاء من تعريفها.


    يحفل تاريخ الفن العالمي بنماذج كثيرة، كما الحال مع تجارب فنوننا الوطنية، فهنالك دائما أعمال لا نستطيع نسيانها ولا نمل من الاطلاع عليها، إنها تدهشنا، تربكنا، وتثير تعاطفاً لا ينتهي. ولكن ليس بأسباب انطوائها على تكرار بلاغتها الفنية، بل لأنها وفي اللحظة المختلفة التي نبصر فيها هذه الأعمال نجدها تطل هي أيضا، بدورها، على أفق تعبيري جديد لم نكن قد بلغناه في السابق. ظهور يشير إلى مقاصد جمالية غير متوقعة.
    أعمال عصية على أي تصنيف، وهي ابعد ما يمكن تعيينها وفق مدرسة فنية، أو إرجاعها إلى شواغل الأسلوب. مسكونة برغبة استجابتها الراهنة أبدا، بأثر تاريخها الخاص الذي لا يشبه تاريخاً آخر، والمتشكل من أحداث جمالية قد ولدت وقائعها من صلب حساسية تعبيرية مستترة، وحده الفنان من رأى طيفها.
    قد لا يتعلق الأمر بكون العمل الفني أظهر مغزاه علانية كاشفا عن جدارة رؤيته، ولا باعتباره الأكثر إتقانا صوريا ولا حتى لكونه واقعيا أو تجريديا، قدر احتفاظه بمبادئ جمالية راسخة، تستدعي مشاهدة متأملة وفعل تلقي يشاركنا حرية النظر اليه والتعلق الدائم به.
    يعزو بعضهم الأمر، بان الفن مجال غير تطوري. لا يزيح أو يبطل أو يكون بديلا عن خبرات سابقة في مسيرته، كما الحال مع العلم، حتى وان كان حافلاً بتتابع ينطوي على تحولات مفاجئة، تصل حد التعارض ورفض أصول تجارب ورؤى وتقاليد سابقة أو في احتفاظه بقدرة التحرر من تجربة الاسلاف التي عبرت عن نفسها في عصر سابق، من أجل تجديد فعله الخاص، المحرض، على الاختلاف والتغيير.
    يتطلع الفن في أشد تحولاته عمقا للبقاء وتكريس سمة خلوده. فالفن مادة لا تتبدد في التاريخ ولكنها تتجدد عبر انتقالها في الزمن. ما يشهد على قول كهذا، تجارب الفن الحديث، الذي شهد تحولات شديدة المغايرة، ومقدمات جديدة في التفكير البصري، إلا أنها حافظت رغم ذلك على تصنيف التجربة الفنية. إن صفة التجديد التي ابتكرتها فنون الحداثة، بذريعة القطيعة، هي ذاتها التي شكلت عنصرا مهيمنا في فرادة العمل الفني. رغم دعوتها بعدم التعاقد مع التاريخ الصوري السابق واستعارتها للقليل من لحظاته الجمالية الماضية. هذا ما دلت عليه خارطة تسميات الأساليب وتجارب الفن الحديث التي انتصرت لاهتماماتها الخاصة بذات الوقت الذي حفلت بجمالية وأصالة العمل الفني.
    في العصر الحداثي ذاك لم يتخل الفنان عن حكمة موروثة، وهي ان جوهر الفن ينطوي على سعيه المتواصل للبحث عما هو كلي من خلال التفرد، حتى وان تعلق الأمر بإيجاد اشكال تعبير صادمة وغير معهودة أو باكتشاف العابر في مكامن الخلود. ذلك العابر يعني وقائع ومشاهد واحداث مدينة في طورها إلى التحول، فيما الكلي هو حقيقة خاصة مرجعها الذات. إن خطابها المعارض لتاريخ جمالي سابق، لم يكن سوى طريقة ذاتية للتعبير عن الدائم. فعلى الرغم من أن جمهور الفن ونقاده ومتابعيه في ذلك الوقت، مثلوا الفنانين بكونهم يتصرفون بالفن مثل قطاع الطرق في الحياة اليومية، إلا أن تجاربهم وأعمالهم كانت وكأنها تعدّ للمستقبل رؤية أخرى تطل ّ على عصر مختلف. لقد ضاعفوا قطيعتهم عند هجرهم تقاليد الفن السابق، وقدموا أعمالا مشاكسة تم التعبير عنها بصياغات شكلية وبصرية غير مألوفة.
    كان الفنان الحديث منقبا في مواقع مجهولة للخيال، بأسباب أن لا مبادئ مقدسة في الفن، لا محاكاة، لا ثبات للنظام البصري. وان فردية الفنان هي التي تحدد قانون الفن، حتى وان كانت تتقدم صوب وجهة مجهولة. ولكن اثناء حمى التنافس تلك، كانت فنون الحداثة تعني أيضا انجاز اعمال متميزة لم تتوسل ممكنات مجاورة خارج مشغلها الجمالي المتطلع إلى أصالة لم يمل في اثباتها.
    في ثلاثينية القرن الماضي تنبأ 'والتر بنيامين' في مقالته 'العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي' بأن هنالك شيئا ما قد لحق بالفن، حينما بات يبتعد قليلا عن فرادته، أصالته، تعاليه غير المادي، وهي السمات التي تجعله محاطا بسر البقاء عبر الزمن. خاصة بعد انشغاله بالتقنية الحديثة، واستمالته لها بذريعة إعادة الإنتاج، واستبدال ظهوره الوحيد بظهور متعدد. ما يجعله قابلاً على التسليع وعلى التداولية والتفريط بـ 'هالته' أو عبقه التاريخي، أي تفرده الذي يعني حرية الحضور بتميز في التاريخ. فالتقنيات لا بد لها من حمل أفكار وعادات وعلاقات وأساليب حياة مختلفة ما يؤثر على إنتاج العملية الفنية. دراسة حفلت بلحظة نبوئية أقرت بخروج العمل الفني من محيطه الخاص إلى العام، بذبول تفرده وهشاشة حالة الثبات التي ربما ستكون إحدى الأدلة على موت الفن كما يدعي البعض.
    قد يكون عقد الستينيات في القرن المنصرم أهم العقود ثورية في تاريخ الفن، ليس بأسباب ظهور أكثر الاتجاهات الفنية معاصرة وطليعية، مثل 'الفن البصري، الفن الحركي، الفن الفقير، الفن المفاهيمي، فن الجسد..'، بل أيضا ان آليات البناء التكويني في الأعمال الفنية المعاصرة، باتت تضاهي آليات الأثر التقني في المجتمع والحياة. استثمار المخيلة الفنية بدواعي المخيلة التقنية المعدة للاستهلاك. بعد الاستعانة بوسائط متعددة ومتغيرة مثيرة للغرابة، بأثر إدماج الفن بالطبيعة الاستهلاكية لحضارة ذات امتيازات ما بعد صناعية، تطورت كي تكون تاليا وسائل إعلام صنعت لذاتها شبكات اتصال الكترونية فائقة الدقة، جعلت العمل الفني يفترض وظائفية عمومية، معاصرة ذات طبيعة اشهارية، تتمثل بترسيخ فكرة الاستهلاك والتماهي مع آليات السوق ومفهوم العرض والطلب بوصفها علاقة ثقافية سائدة، هي أيضا بمثابة معيار يتم على ضوئه تقييم العمل الفني.
    إن عملية العرض قد حققت للكثير من التجارب الفنية المعاصرة ومنجزها طبيعة إشهارية، عامة، كانت البديل عن 'الندرة' وصفاتها المثالية التي احتفظ بها العمل الفني زمنا طويلا.
    ما قبل فنون 'ما بعد الحداثة' كانت قيمة عرض العمل الفني هي التي تمهد للتعريف بطبيعته الجمالية، بتميزه، بتفرده عن سواه، طبيعة اختلفت وظيفتها في تجارب الفن المعاصر، حينما باتت توازي وظيفته الفنية، وأحيانا منتجة لها، ومشاركة في تشكيل عالمها، باعتبارها وظيفة عارضة توازي حضورا عارضا للتجربة.
    تجارب غالبا ما تفتقر إلى الغرض، سوى بإشارتها للمتلقي والى البيئة التي تظهر خلالها كحدث تشكيلي قائم على المتعة. وهي ذاتها أشبه ما تكون بانبعاثات أسلوبية تعيش حرية قصوى في ظهورها وانطفائها والتباري فيما بينها لمحاولة انتزاع الاعتراف بها، إذ لم يعد 'العمل الفني' يطمح إلى ترسيخ أصالته بل إلى ظهوره الاشهاري بذريعة التصدي للعملية الفنية برمتها.
    إن 'العمل الفني' وفي العديد من اتجاهاته المعاصرة، أصبح يستمد تأثيره من زمن العرض ومدة الإعداد له حيث تتضافر التقنية والفضاء الملائم في إخراج التجربة التي غالبا ما ينفذ وينجز بعضها لمرة واحدة فقط، وهو يعرض وجهاً لوجه أمام حشود الجماهير، وبعد ما تحول إلى موضة فنية خاضعة لشروط العرض والطلب وتنافسية الاتجاهات الفنية المعاصرة ومضارباتها. بهذا أصبحت ذائقة 'الاستهلاك' متماهية في تقييم العمل الفني ومفسرة لخبراته معا.
    في عالم 'المابعدية' الذي نحياه أصبحت الكثير من الأفكار وأساليب الإبداع تتموقع عند لحظة انتقال حافلة بالتقاطع والضدية. أنه عالم يتضمن أيضا فقدان الاتجاه، ما يجعل أية حالة استكشاف فيه بما تشبه رحلة تمضي في جميع الأنحاء أو في جميع المواقع، من المؤسسة حتى الجنس. فكل تمثيل منسق للعالم بات طموحا لا يجدي، عدا عن أن الدائم والمتجانس بالنسبة إليه ليس سوى قيم وهمية قابلة للانكسار والتشظي. فالكلي هو قيمة زائلة ومشكوك في وجودها.
    كما ان الأصالة كنظام ثابت أصبحت كذلك عنصرا خاضعا للمساءلة والتشكيك ودالاً غير محتفى به. في فن ما بعد الحداثة أو فنون المعاصرة، وريثة المابعدية هذه، تبقى حقيقة كل تجربة هي لحظة وجود اثناء أدائها في العالم بوصفها غاية لا ترغب بأي مقاصد أو معنى غير حدوثها.
    وهي كذلك تلك التجربة التي توقف فيها الفن كي يكون فنا. أزمة يعيّنها المفكرون والجماليون بكونها حالة إعلان عن موت الفرادة في الفن.
    .. هل باتت فكرة خلود الفن إذن مهددة بالزوال؟ بعدما أصبح العمل الفني 'المعاصر' عرضة لتكرار وتداول عمومي يدعو إلى استهلاكه بطريقة غير تأملية لا تخلو من العجالة واللامبالاة، ما يؤسس كذلك لإفقاره الداخلي وتغييب مقاصده، فيما يتم النظر إلى فكرة الأصالة والتفرد بكونهما بعض مشاعر فردية ليس إلا!!
    ولكن هل بات التاريخ بدوره لا يأبه بالمعاصرة مكتفيا بالماضي، بما قدمه الأسلاف العظام.. فقط؟

    © 2009 - 2013 Sharjahmisan.com All rights reserved
    Designed by Sillat Media & Managed by Ilykit